على أي حال بعد أن عرضنا تدليل كل منهم على راية يجب أن نعرض الكيفية التي يتم بها حدوث هذا الأثر سواء كان هذا الأثر غزوا ثقافيا أم اتصالا ثقافيا.
أولا : الرؤى ووجهات النظر التي ترى في مواد البث الوافد غزوا ثقافيا :
وسوف يتم تناول هذا المطلب من خلال ثلاث نقاط مهمة .
1- العلاقة الإرتباطية بين البث الوافد والغزو الثقافي:
إن الدول المتقدمة نجحت في إغراق أسواق الدول النامية بالآلاف من الكتب والمجلات والصحف التي تمجد قيم الغرب مثل الفردية والعنف الغريزي وعدم المسئولية أمام المجتمع .
وهناك أشكال أخرى للغزو الثقافي تتم بشكل غير مباشر عبر وسائل الإعلام والثقافة تتمثل في برامج الإذاعة والتليفزيون السياسية والاجتماعية والترفيهية والتثقيفية فضلا عن الأفلام السينمائية والمسرحيات (عبد الباسط عبد المعطى, 59,1979) . ومع هذا البث سوف تكون بلادنا مستهدفة لزحف فكرى جديد من جانب الدول التي تملك الأقمار الصناعية وهو الزحف الذي يستهدف تدمير الذاتية الثقافية للمجتمعات المحلية وفرض هيمنة الثقافة الغربية (عبد الفتاح عبد النبي , 143,1990) وأننا لمحاصرون اليوم بين القنوات الأجنبية والإنتاج الأجنبي وما يأتينا عن طريق الأقمار الصناعية على وجه الخصوص الأمر الذي أدى إلى تحويل شبابنا إلى شباب بلا قضية فيتحولون إلى السلبية واللامبالاة وفقدان المعنى والبعد عن الواقع والشعور بالاغتراب (عبد المجيد شكري 52,1995) . وليست الأفلام والمسلسلات وما تعرضه من أفلام مثيرة للغرائز ومشجعه على العنف والسطو والانحراف وتؤكد بها القيم الفاسدة وتتحدى بها سلطة الآباء والأمهات وسلطة المربيين والقائمين بأمر التعليم , ليس ذلك كله إلا صوره من صور المحاولة المستميتة لتغريب الحياة الاجتماعية في المجتمعات المسلمة الأمر الذي يؤدى حتما إلى تعميق الشعور بالاغتراب بأشكاله المختلفة
( على عبد الحليم محمود 134,1991-135) .
علما بأن الأسلوب والكيفية التي تعرض بها الأفلام من خلال الشاشات التليفزيونية تنحدر بكثير من القيم الإنسانية لنفوس المراهقين نحو مخاطر الانحراف وكثيرا من مظاهر انحراف المراهقين يرتكبونها حبا في تقليد أبطال الفيلم أو المسلسل الأمر الذي ينعكس حتما على هوية المراهق ويسبب فقدانها وما يترتب عليه من اغتراب ثقافي .
ولذا تتمثل احتمالات الضرر مما ينشره البث المباشر من مواد ثقافية في إشاعة أنماط السلوك غير مرغوبة , بالإضافة إلى أن هذه المواد الثقافية تبث أفكارا ذات تأثير مباشر أو غير مباشر على هويتنا وانتمائنا وقيمنا الدينية وتراثنا, ثم أن هناك احتمالات الشعور بالعجز والإحباط والدونية إزاء ما يراه المشاهد من مظاهر التفوق الباهر في المجتمعات المتقدمة وما لذلك من أثر في تثبيط الهم والعزائم والرضا بالتبعية
( المجالس القومية المتخصصة – 1995 ,50 ) ومع التسليم بصحة نتائج دراسات أجريت في الخارج حول تأثير البرامج الوافدة في كلا من كوبا وكندا على سبيل المثال , ومن متابعة ما يناقش في المؤتمرات وما ينشر في الصحف والمجلات عن بعض ما يبث عبر الأقمار الصناعية نجد أن الهدف الأساسي من وراء ذلك البث الوافد يكمن في التبعية للثقافة الغربية , ورفض الثقافة العربية والشعور بالاغتراب , وفقدان ألذات ومحو الهوية , ويرتبط بذلك الشعور بالوحدة والخوف وعدم الإحساس بتكامل الشخصية (أحمد الشناوى1988, 115, 118) .
وعلى هذا فإن مصر شأنها شأن بلدان العالم الثالث تواجه هجوما أو غزوا ثقافيا وإعلاميا متعدد الجوانب من شأنه الإغراق في قيم اجتماعية وثقافية غير ملائمة , كما أنه يؤدى بوعي أو بدون وعى إلى الإحساس بالاغتراب الثقافي والسلبية والهروب من التصدي لواقع الحياة
(سنان سعيد , 1985 , 9) .
وبذلك فأن قضية الغزو الثقافي أصبحت اليوم من أشد القضايا خطرا على عقول كثير من المثقفين وكانت وسيلته في ذلك الاختراق الثقافي .
(سليمان الخطيب , 1991, 122)
وفى هذا الصدد أشارت عواطف عبد الرحمن إلى أن الاختراق الثقافي يساعد على نشر أفكار ومعتقدات تؤدى إلى تعميق الاغتراب الثقافي وفقدان الخصائص القومية المميزة لثقافات الشعوب التي تتعرض وتستجيب لهذه التأثيرات ( عواطف عبد الرحمن , 1987 , 83) .
2- العلاقة الوظيفية بين الغزو الثقافي والتغريب الثقافي (1) :
وبعد أن سلكنا مسلكا على سبيل الملاحظة لما بيئة إعلام الحضارة الغربية المعاصر وما تتيحه هذه الحضارة من إنتاج ثقافي , ووجدنا أنه تعبير عن قيم وعن سلوك تشق طريقها إلى الدول النامية من خلال ما يسمى بالغزو الثقافي . (محمد سيد محمد , 1994, 151) . والذي من خلاله يسهل تغريب الحياة الاجتماعية وما يسودها من قيم خلقية وأداب سلوكية وما يحيط من عادات وتقاليد وأعراف . أي أن الغزو الثقافي هدفه الأسمى تغريب الأفراد عن عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم وقيمهم وآدابهم , أو بالأخرى اقتلاع كل هذه الأشياء من نفوس أصحابها وحامليها .
أن أفضل ما نستهل به مناقشة ديناميات التغريب هو القول بأن التغريب شكل محدد من أشكال التغير الثقافي , وبما أن التغير الثقافي هو "العملية التي من خلالها تتغير العناصر المادية والأساليب الفنية والتنظيم والاتجاهات والقيم والمفاهيم ووجهات النظر في ثقافة ما نتيجة الاتصال بين حاملي هذه الثقافة وحاملي ثقافة أخرى مختلفة, وعلى هذا فإن التغريب هو " التغير الذي يحدث في أي مجتمع غير غربي تحت تأثير الاتصال بجماعات أو أفراد غربيين "أي أنه – التغريب – " الملية الثقافية التي من خلالها يتبنى المجتمع أو جزء منه الثقافة الغربية كلية أو جزئية" وتتضمن هذه العملية نبذ عناصر ومركبات من الثقافة التقليدية كي يحل محلها عناصر ومركبات ثقافية غربية (كمال التابعي , 1993, 173) .
وينشأ عن ذلك إحساس عميق بالدونية نابع من حاملي الثقافة التقليدية تجاه حاملي الثقافة الغربية (سليمان الخطيب, 1991, 7) وللتغريب أسماء أخرى مثل الحداثة أو المعاصرة أو التطوير نبذ القديم لغة وتراثا ودينا وقيما وأخيرا النظام العالمي الجديد الذي تبنية أمريكا وتستخدم فيه دول العرب الغرب
( على عبد الحليم محمود, مرجع سابق) .
إن العالم العربي يمر بمحنة حضارية لم يرها طوال تاريخية تمثلت في تغريب الواقع المصري وظهرت هذه القضية في أروقة الجامعات وصفحات الصحف ودواوين الحكومة. ومن ذلك نرى أثر التغريب من خلال ترويج الفكر العربي والثقافة الغربية وذلك من خلال السيطرة على التعليم والسيطرة على الإعلام , والمعروف لكل إنسان أن السيطرة على التعليم والإعلام هي السيطرة على الفكر والثقافة
(على عبد الحليم محمود, مرجع سابق , 28: 31) .
منذ نشأة التعليم الأجنبي في مصر وهناك حرص شديد للقائمين على أمر المدارس الأجنبية كأحد الأدوات للتغريب الثقافي وطرح الثقافة الغربية ونمط الحياة الأوربية كنموذج تحتذي به البلدان النامية (كمال نجيب , شبل بدران , 1991, 43: 44) .
كما يظهر أثر هذا التغريب من خلال زعزعة أولاء للغة العربية بادعاء صعوبة قواعدها وإشاعة العامية والكتابة بها وتبسيط قواعد اللغة إلى حد الإفساد ومحاولة إحلال لغات أجنبية محل الفصحى ويظهر أثر التغريب أيضا في الضربة القاسية التي وجهت إلى المجتمع المصري في عاداته وتقاليده وآدابه .
العامة حيث حاول الأعداء من خلال ذلك أن يغربوا مجتمعنا , وأن يسعوا به في الطريق الذي يذيب كيان هذه المجتمعات ويلقى بها ضحية مسلوبة الإرادة في أحضان الحضارة الغربية (نفس المرجع السابق ) وهكذا فإن أحد النتائج المبكرة للتغريب هو إصابة التوازن الاجتماعي بالاضطراب والخلل (كما التابعي , 1993, 183) .
وعلى هذا فإن التغريب حمله خطط لها بذكاء والهدف منها تغريب الواقع المصري بتحويل ولاء المصريين للغرب وعاداته وتقاليده .
ومن خلال ما سبق استطعنا أن ندرك مظاهر الغزو الثقافي وقد تجسدت في حملات التغريب للواقع المصري كتغريب التعليم والثقافة والنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتغريب الأخلاق والآداب ثم تكون قمة التغريب بتغريب اللسان لقطعة عن اللغة العربية الفصحى "لغة القرآن" وإذا كان الغرب نفسه يخشى من الغزو الثقافي وما ترتب عليه من تغريب فإننا أولى أن نخشى الغزو والتغريب والتذويب وأن نعمل على حماية أنفسنا ضد كل أشكال التغريب الثقافي .
ولكن ما هي طبيعة الأسباب والقوى التي مكنت الثقافة الغربية في مواقف اتصال عديدة من أن تسود وتسيطر وجعلت الثقافة التقليدية تخضع وتقبل (كمال التابعي 1993, 175) . ولكننا في حقيقة الأمر لا نجد إجابات شافية في التراث السوسيولوجي المتاح عن هذا التساؤل وذلك لأن التغريب كان هدفه الأساسي التبني الكامل للقيم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية للمدنية الغربية (فهي جذعان , 1981, 224: 223) .
ولنتساءل مرة أخرى هل لنا في محاولة لتحليل دور الاستعمار في فرض ثقافته ؟ مع بيان دور المتلقي المغترب – وموقفه من هذا الوافد الثقافي أو بالأخرى الغزو الثقافي ؟ وكيف يمكن فهم نفسية المغترب ومنهجه الإستلابى أمام هذا الوافد ؟ (حسن حنفي , 1985, 129: 130) .
ثانيا : الرؤى ووجهات النظر التي ترى في مواد البث الوافد اتصالا ثقافيا ويمكن تناول هذا المطلب من خلال أربع نقاط مهمة :
1- ضرورة الاتصال الثقافي :
إن التلاقي والاختلاط الثقافي لصالح ثقافتنا وليس ضدها ذلك أن الثقافات الغربية تتميز حاليا بجانبها العقلي في ميادين العلم والتكنولوجيا وقدم لأصحاب هذه الثقافات منجزات سهلت عليهم الكثير من أمور حياتهم (محمد أحمد خلف الله , مرجع سابق , 10) ولقد اتجهت أمم كثيرة للانفتاح على الغرب وحافظت مع ذلك على خصوصياتها الثقافية وأقرب مثال على ذلك اليابان والصين والهند .
وكشف باتي "Patai" على أن إدخال أي عنصر من عناصر الثقافة الغربية إلى ثقافة تقليدية غير يواكبه حتما عناصر جديدة وتغيرات كثيرة ينجم عنها إضطرابات خطيرة في الثقافة التقليدية (كمال التابعي , 1993, 245) . وفى ضوء هذه الحقيقة ينبغي علينا عندما نستعير عنصرا ثقافيا من أي ثقافة خارجية أن يكون هذا العنصر متمشيا مع ثقافتنا وأن نوظفه لخدمة ثقافتنا بشكل يجنبنا أي إضطرابات خطيرة في ثقافتنا , ولهذا ينبغي علينا أن نشارك في الفكر العالمي كله أيما كان مصدره . ندرسه ونتعمقه وننفذ إلى صحيحة ونتمثله .. فإذا نبذنا شيئا ننبذه عن علم عميق وإتقان وإذا أخذنا بشيء منه أخذنا عن وعى كامل ونقد فاحص وتمثل صحيح (عبد الرحمن بدوى , 1989, 35) ويعنى ذلك أن نأخذ ما يتفق وثقافتنا ونترك ما يضرنا ويؤثر على هويتنا وعاداتنا وتقاليدنا الأصلية . ومع ما تبديه معظم المجتمعات غير الغربية من انتقادات وتحفظ إزاء القيم وأساليب الفكر الغربي إلا أنها مع ذلك لا تتردد في اقتباس كثير من عناصر الحضارة الأمريكية والأوروبية (سمدون حمادي وآخرون "د.ت" ، 57). وعلي هذا فإن الإنماء الثقافي والاتصال الثقافي فرض واجب علي الإنسان اليوم ، ومن هنا يجب أن نعمل علي إحياء الثقافة العربية وتطهيرها من الشوائب والتشوهات التي طرأت عليها والاستناد عليها لتدعيم المقاومة المحلية ضد الغزو الثقافي ، فهذه المقاومة هي السبيل الوحيد لاستعادة وعي العرب الأصيل بذاتهم وهي السبيل الوحيد لاستيعاب الحضارة الحديثة لا باعتبارها تقليدا أعمي للغرب ، وإنما بعد انتزاعها من إطارها القيمى وتكيفها مع القيم العربية وهكذا يتسنى للمجتمع المصري أن يساير العصر ويحتفظ بهويته وأصالته في الوقت ذاته .
2- أهمية الانتشار الثقافي :
إن الثقافة هبي نتاج الفكر الإنساني وثمرة العقل البشري وخلاصة تجارب الإنسان في حياته الاجتماعية (فارس خليل ، 1965 ، 41 : 42).
ويزعم جليفورد جرتز "Guilford Geertz" أن الناس بدون ثقافة هم حيوانات شاذة لا تصلح للعمل Brigitte Berger , 1995
ولا يوجد في الوقت الحاضر المجتمع الذي يستطيع أن يستغني عن خبرات غيرة ويعيش معتمدا علي نفسه (حسن الفقى ، 1970 ، 86).
ولأن الإنسان يتميز بين الكائنات بأنه له ثقافة تحتفظ بنتاج خبراته العقلية وأن ينقلها إلي الآخرين في بيئته عن طريق وسائل الاتصال الرمزي Symbolic وأهمها اللغة ، ثم يستطيع أن يربط خبراته هو بتلك التي تنقل إليه بما ييسر له تكوين نتاج مركب جديد
(فارس خليل ، مرجع سابق ، 41 : 42) . وانطلاقا من هذا فإن الثقافة تنشأ في مجتمع معين ثم تنتشر إلي المجتمعات الأخرى فيما يسمي بالانتشار الثقافي (نصر محمد عارف ، 1994 ، 42) ونستطيع الإفادة من تجارب الآخرين وتطويرها بما يناسب المناخ والواقع المصري
(محمد الهادي عفيفي ، مرجع سابق ، 232) ذلك لأن الانتشار الثقافي يعني انتشار لعناصر ثقافة معينة عن طريق نقل عناصر ثقافية من مجتمع أو أكثر إلي مجتمعات أخرى بسرعة وفي وقت واحد تقريبا (James , Wcarey , 1992) .
أي أن هذا الانتشار الثقافي عامل من عوامل التغير وهو يعني استعارة ثقافة لعناصر جديدة من ثقافة أو ثقافات أخرى ، والعامل الرئيسي الذي يساعد علي هذا الانتشار الثقافي هو تقبل المجتمع الجديد للعنصر الثقافي الجديد (محمد الهادي عفيفي ، مرجع سابق ، 232) وبذلك تحقق الثقافات الأقل انتشارا تواجدها لا أن تسيطر ثقافة معينه علي العالم كله وأي ثقافة لها اتجاهان ومثال ذلك يجب أن نؤثر علي الثقافة الأوروبية والأمريكية بقدر تأثيرها علينا حتى لا نفقد هويتنا وذاتيتنا الثقافية (Ezzat Ali , 1995 , p22-23) .
3- ضرورة الانفتاح الثقافي :
إن التكيف الثقافي هو أحد شعارات مرحلة النظام العالمي الجديد (تقرير المجلس القومي للثقافة والفنون والأدب والإعلام ، 1994 : 1995 ، 48 – 49) . ولكي يتحقق هذا التكيف الثقافي ينبغي أن يكون مستوي التقدم في نتاج ثقافتنا يرقي علي الأقل إلي نظيرة في تلك الثقافات ، ويتطلب الارتقاء بنتاج ثقافتنا تربية عقول مفكرة منفتحة وجادة من الأجيال الصاعدة في مجتمعنا يمكنها أن تستفيد من تجارب الثقافات الأخرى ولديها القدرة علي تطويرها والإضافة إليها (محمد أمين المفتى ، 1989 ، 467) ولهذا أصبح الانفتاح الثقافي أمر ضروري لا مفر منه وإغفاله يؤدي إلي عزلة عن الثقافات الأخرى في وقت يعتبر فيه التكاتف والتعاون بين الدول أمرا مصيريا ومطلبا حياتيا لا بد من تحقيقه .
وغني عن البيان أن التمايز الحضاري هو موقف مختلف عن الانغلاق أو العداء الحضاري فرفض الانفتاح علي الحضارات الأخرى هو موقف ضار فعلا ؛ فضلا عن أنه غير ممكن في ظروف ثورة أجهزة الاتصال والتواصل التي تزداد فاعليتها في العصر الذي نعيش فيه
(محمد عمارة ، 1993 ، 211) .
ويمكن للانفتاح من خلال وسائل الإعلام علي الثقافات الأخرى أن يمثل عامل تحفيز وعامل زعزعة للاستقرار في آن واحد ؛ فكثير من الناس يشعرون بالقلق من أن تؤدي الصور المنقولة بوسائل الإعلام إلي تقوية الروح الاستهلاكية في المجتمعات المنقولة إليها (مني الحديدي ، 1995 ، 201) . ومن ثم فإن الفهم الشمولي الحديث للحضارة المعاصرة والانفتاح المنضبط تجاهها أمر ضروري للتبادل الحضاري الصحيح ؛ لأن هذا الفهم هو الذي يمكن من الانتقاء والاستفادة العملية والفنية الصحيحة دون مساس بالقيم والعقائد والمبادئ والهوية ؛ ولهذا يجب الحذر من فهم الانفتاح والاقتباس الحضاري علي أنه دعوة إلي الانفتاح والتسيب المطلق أو أنه ذوبان ومتابعه لا حدود لها ، إنه انفتاح وتعامل واع خبير مستقل
(عبد الحميد أحمد أبو سليمان ، 1990 ، 169 : 170) .
إن الباحث المتعمق يجد أن المسلمين حيث أتفتحوا علي الحضارة اليونانية أخذوا منها ما يتفق مع خصوصياتهم الحضارية
(أحمد عبد الرحيم السايح ، 1994) ويشير واقعنا الثقافي في أكثر من مجال إلي أن تحقيق الخصوصية الثقافية لا يتم إلا بالانفتاح علي الحضارات الأخرى وعلي هذا فإن الانفتاح المنضبط تجاه الحضارة المعاصرة أمر ضروري للتبادل الثقافي (هيام الملقي ، مرجع سابق ، 63 : 46) .
4- ضرورة التبادل الثقافي :
كثير ما يقول القائلون أن الثقافة لا تعرف الحدود وأنهم لعلي حق في ذلك ، وإن لم تكن هي القاعدة ولقد عرفت مصر هذه الحقيقة وعملت علي ضوئها ، فقد تركت مصر في مراحل تاريخها الطويل أبوابها ونوافذها مفتوحة علي مصراعيها أمام المؤثرات والتيارات الثقافية .
وتقوم العلاقات الثقافية بين الشعوب علي أساس من الفهم المتبادل تجاه بعضهم البعض ، فالتفاهم والتبادل الثقافي القائم علي المعلومات التي ترد إلينا من الخارج لا تستأثر بها الصفوة بل ينالها الجميع (Davish – Kodyouri , D.Jammed , 1991 , 4600) وتقوم بهذه المهمة وزارة الثقافة ومؤسساتها المختلفة كالمسرح والسينما والثقافة الجماهيرية وغيرها ، وفي المجتمع الحديث نجد وسائل الاتصال تلعب دورا مهما في عملية التبادل الثقافي عن طريق طرحها كما هائلا من الثقافات المتنوعة علي المشاهد والمستمع والقارئ وبذلك تفتح مجالات عديدة أمام المبدعين وتساعد علي تنمية الثقافة الذاتية للفرد التي بدورها تصبح جزء من الثقافة الوطنية (محمد بن عروس ، مرجع سابق ، 9) هذا وقد انبثق عن برنامج اليونسكو إنشاء مراكز إقليمية عديدة من بينها في القاهرة ما يسمي بمركز القيم الثقافية بين الشرق والغرب عام 1963 ، وأسهمت اليونسكو في تمويل أنشطته لفترة عشر سنوات ، وتضمن برنامج نشاطه ترجمة عدد من المؤلفات التي تبرر دور الثقافة المصرية أو تعكس موقفها من بعض القضايا المهمة إلي بعض اللغات الأوروبية (حسن نافعة ، 1996 ، 22) .
والتبادل الثقافي يقوم علي قوة المعلومات والمثاقفة من كلا الطرفين حتى لا تضعف الثقافة الوطنية (Davish , kodyour , op. cit , p600) ولقد حرصت مصر علي أصالتها وهويتها رغم تعرضها للغزوات مرات كثيرة في مراحل تاريخها ، وكانت مرونة الذات المصرية ورحابة أفقها يتيحان لمصر انتقاء ما يلائمها من صفوة حضارة الآخرين وثقافاتهم دون أن يخل هذا الانتقاء بأمنها الثقافي الذي حرصت عليه حرصها علي أمن الأرض والبشر ، بل كان انتقائها خير ما عند الآخرين من عوامل اتساع ثقافتها وزيادة عمقها ومن ثم أمنها وأمانيها
(تقرير المجلس القومي للثقافة والفنون والإعلام ، 1993 : 1994 ، 47) .
ونحن نتفق مع هؤلاء الباحثين في أن نستفيد من حضارة الغرب وننهل منها لكن ما يتناسب مع أصالتنا وقيمنا وأن يتم النهل أو الاقتباس بشكل إداري واع وعن طريق الانتقاء لما يلائمنا فنأخذ ما نراه أوفق لنا وندع غيرة ونضع ما نقتبسه في مكانه الصحيح من حياتنا ، مع التيقن أن الاقتباس يتم لمصلحة المقتبس لا لترسيخ قدم المقتبس عنه كي لا يتمكن منا كما يأمل الاستعمار الثقافي ، وذلك من منطلق أن الحضارة الإنسانية الحالية ليست ملكا لشعب بعينة بل أنها ارث الإنسانية جمعاء وقد ساهمنا فيها وساهم غيرنا فيها لكننا نفرق بين حضارة عطاء إنساني وحضارة استبعاد واستغلال واستلاب واغتصاب لعقول الآخرين وتمزيق لهوية الآخرين الثقافية والاجتماعية ، ثم نقول لهؤلاء الذين يركزون علي أن البث الإعلامي الفضائي وسيلة للتبادل الحضاري والعلمي والثقافي . هل من العدالة والحضارة أن يكون البث الإعلامي المعلوماتي والإخباري لا متوازن وباتجاه واحد ومضامين منتقاة موجهة إلي شعوب بعينها وبشكل سلبي مما يجعلها فريسة سهلة لهذا الإعلام ؟
علي إيه حال فإنه لا خوف علي الإطلاق مما يوصف بأنه غزو ثقافي أو اختراق إعلامي مادمنا نحصن أنفسنا بالتعليم والتثقيف ونحرر برامجنا الإعلامية ونتوسع ونيسر توصيلها إلي جميع قطاعات الشعب .
ولكن ليس معني ذلك أن نصم أذننا عن الثقافات الوافدة بل لابد أن يكون لنا موقف منها حينما نرى أنها تؤثر في ذاتيتنا الثقافية . ومن هنا علينا أن نلتمس الوسائل الكفيلة باتقاء الشر قبل وقوعه , ولكن ماذا نستطيع أن نفعله إزاء ما يفرض علينا فرضا عن طريق الأقمار الصناعية ؟ وكيف نحمي أبناءنا وبناتنا منه ؟ ليس أمامنا إلا المزيد من ثقافتنا الأصلية وقيمنا التي تحصننا ضد أي غزو ثقافي ، ثم علينا أن نرتفع بمستوي المادة الثقافية الإعلامية التي يتعرض لها المراهقون من خلال وسائل الإعلام ومن ثم يكون ذلك هدفا أساسيا إستراتيجيا في السياسة الثقافية والإعلامية للإنسان .
خلاصة:
وتأسيسا على ما سبق يمكن استخلاص ما يلي :
1- ننا نواجه العديد من التحديات في هذا العالم المتغير ، فهناك تحدى ثورة تكنولوجيا الاتصال وتحدى الاحتكارات الكبرى آلتي تسيطر بقوة على الصف ووسائل الإعلام الإلكترونية ، مما أدى إلى تركيز مصادر التحكم في المعلومات الدولية ، وتأثير ذلك كله على حرية التعبير عن الرأي ، ومستقبل الصحافة والإعلام ، ومدى تمتعها بالحرية الحقيقية ، وهذا كله يتطلب مراجعة شاملة للتشريعات والقوانين الخاصة بالصحافة والإعلام وتنقيتها من العوائق القانونية والإجرائية لحرية الصحافة سعيا وراء تحقيق مزيد من التنوع التعددية .
2- أضافت الثورة المعاصرة في تكنولوجيا الاتصال طابعا دوليا على كافة وسائل الإعلام الجماهيرية ، بحيث أصبح من الصعوبة بمكان التفرقة بين ما هو إعلام وطني و إعلام دولي فالإعلام الوطني الذي ينتجه مجتمع ما لمواطنيه ، قد أصبح له شكل من الأشكال مقصودا أو غير مقصودا – بعدا دوليا ، فالبرامج التي تبثها محطات التليفزيون في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي وكندا واليابان ودول غرب أوربا والتي أعدت من الأساس لجمهورها المحلى ، أصبحت تشاهد عبر الأقمار الصناعية في أنحاء متفرقة من العالم وقد اكتسبت بذلك بعدا دوليا لم تسعى إليه أصلا ، ولكن تطور تكنولوجيا الاتصال جعل ذلك ممكنا ، ومن هنا فان هذه القنوات المحلية فقدت محلتها لان هذه القنوات تكنولوجيا يتم مشاهدتها خارج حدودها الوطنية ونطاقها المحلى ، وهو ما يؤكد أن وسائل الاتصال الجماهيرية أصبحت تتسم بالطابع الدولي أو العالمي نتيجة التغيرات الكبيرة في طبيعة شبكات الاتصال المحلية التقليدية الناتجة عن تكنولوجيا الاتصال الحديثة .
3- لقد لفتت قضية البث الوافد وتأثيراته المرتقبة على المجتمع انتباه الكتاب والمعنيين بشئون الإعلام في مصر منذ بداية الثمانينات أثيرت هذه القضية على صفحات الصف والجرائد وفى الندوات العامة لكن كل الآراء التي أثيرت حول هذه القضية اتسمت بالتضارب وغلبة الطابع الانفعالي بعامة عليها وغياب التحليل المتعمق والرؤية الشمولية التي تضع القضية في إطارها الصحيح ؛ فهناك من رحب بمقدم هذا البث ووجد فيه إثراء للثقافة الإنسانية وفرصة طيبة وميسرة للإطلاع على منجزات العصر ، وأعرب في ذلك عن غبطته بما يتيحه البث المباشر من فرص طيبة للتخلص من احتكار السلطة للمعلومات ومن الممارسات المملة لأجهزة الإعلام المحلية ، وهناك من أعرب عن مخاوفه أثار في ذلك قضايا الأمن الثقافي الهيمنة الثقافية والغزو الثقافي والاختراق الثقافي والاستعمار الإلكتروني وإمبريالية الصورة التليفزيونية والذاتية الثقافية التي ستتعرض للتهديد .
4- تؤدى تكنولوجيا الاتصال إلى تقلص الخبرات المشتركة التي تتيحها وسائل الاتصال الجماهيري مع معظم أفراد المجتمع ؛ ليحل مكانها خبرات مشتركة مع أفراد نفس الطبقة المتجانسة التي تشترك في نفس الخصائص والسمات ، في حين تحقق وسائل الاتصال الجماهيرية خبرات مشتركة اكبر وتماسك أفضل لأفراد المجتمع ، ويؤدى هذا التماسك إلى ضمان تحقيق الأهداف المشتركة لصالح المجتمع من خلال تحقيق هذه الأهداف ، وبدون هذا الأساس المشترك فان خطر التفتت واللامركزية سيكون كبير ، ومن أمثلة ذلك نظم الاتصال الكابي التي تتيح قدرا هائلا من برامج الترفيه المتشابهة ، والتي يمكن أن تؤدى إلى عزل أفراد المجتمع عن التعرض لمعلومات أخرى ؛ قد تكون أكثر أهمية وارتباطا بحياتهم وما ينطبق على المجتمعات ينطبق أيضا على الأسر ؛ فنتيجة التعامل الشخصي مع وسائل التكنولوجيا الحديثة، يمكن أن تقل الخبرات المشتركة بين الزوج والزوجة أو بين الآباء و الأبناء ؛ مما يؤدى إلى صعوبة التفاهم والاشتراك في القيم ، وهو ما يؤدى إلى الانفصال والبعد عن واقع مجتمعهم ، ومن ثم شعورهم بالاغتراب وعدم الانتماء إليه ، وهو ما يقودنا إلى معرفة خصائص هذا الجمهور ومدى احتياجاته الثقافية والإعلامية ومدى الاشباعات التي تحققها وسائل الإعلام المصرية حيال هذا الجمهور
الثلاثاء مارس 12, 2019 11:00 am من طرف مراد
» مواد بناء وتشطيب من مصانع الصين لبيتك 008615011961687
الإثنين أغسطس 22, 2016 2:27 pm من طرف دليل الصين
» مواد بناء وتشطيب من مصانع الصين لبيتك 008615011961687
الإثنين أغسطس 22, 2016 2:26 pm من طرف دليل الصين
» أنواع الصحف الحائطية
السبت ديسمبر 12, 2015 9:47 pm من طرف على فتحى
» كيفية عمل صحيفة الحائط
السبت ديسمبر 12, 2015 9:44 pm من طرف على فتحى
» أنواع الصحف المدرسية
السبت ديسمبر 12, 2015 9:41 pm من طرف على فتحى
» كيفية إعداد صحيفة حائط متميزة
السبت ديسمبر 12, 2015 9:29 pm من طرف على فتحى
» نموذج اختبار كادر المعلم ( اعلام تربوى )
السبت ديسمبر 12, 2015 9:21 pm من طرف على فتحى
» الإعلام التربوي
السبت ديسمبر 12, 2015 9:18 pm من طرف على فتحى